'رقوج'.. حين يتحوّل الركح إلى ذاكرة حيّة تختتم مهرجان بنزرت الدولي
أسدل مهرجان بنزرت الدولي، مساء الثّلاثاء، الستار عن دورته الـ 42، بعرضٍ حمل توقيع الثنائي عبد الحميد وحمزة بوشناق، عبر العمل المسرحي الموسيقي "رقوج"، الذي نقل روح المسلسل الرمضاني إلى فضاء الركح في تجربة فنية حيّة جمعت بين المسرح والغناء والرقص والموسيقى.
خلال ساعتين وسبعٍ وأربعين دقيقة، عاش جمهور بنزرت رحلة بصرية وسمعية متكاملة، حيث امتزجت الحكاية بالذاكرة، والمشهدية بالعاطفة، في تجربة أعادت تعريف حدود الفنون الحيّة.
مزيج من الفنون الحيّة
العرض من إخراج عبد الحميد بوشناق وموسيقى حمزة بوشناق، بمشاركة أوركسترا ضخمة من 40 عازفًا بقيادة المايسترو راسم دمق، فيما تولّت أميمة مناعي تصميم اللوحات الكوريغرافية التي منحت العرض بعدًا سرديًا بصريًا موازيًا.
يرى عبد الحميد بوشناق أن "رقوج" ليس مجرد اقتباس لمسلسل، بل "تجربة مسرحية قائمة بذاتها"، تعتمد على قوة الجسد وحرارة الصوت وارتجال اللحظة، إلى جانب العزف الحي الذي جعل الجمهور يشعر بأن كل شيء يُخلق أمامه الآن.
أمّا شقيقه حمزة، فيعتبر أن العمل كسر القالب الكلاسيكي للمسرح، فالجمهور هنا ليس متفرّجًا سلبيًا، بل شريكًا فاعلًا في التجربة، وهو ما دفع الفريق إلى إعادة صياغة بعض المقاطع في كل عرض وفقًا لتفاعل الحاضرين.
ويضيف حمزة: "الموسيقى في رقوج ليست خلفية للأحداث، بل هي روحها النابضة، حيث يتماهى العزف مع نبض الممثلين وحركاتهم في انسجام يجعل المسرح فضاءً واحدًا تتداخل فيه كل الفنون."
مشهدية بصرية تستحضر الذاكرة الجماعية
لم يقتصر سحر "رقوج" على الأداء المسرحي والغنائي، بل امتد إلى تصميم الأزياء وتفاصيل المشهدية البصرية.
الأوشحة الملوّنة وقطع القماش البسيطة التي زيّنت رؤوس الممثلات لم تكن مجرد إكسسوارات، بل بيانًا شعريًا يحتفي بالعاملات الفلاحيات وذاكرة الحقول.
وفي لوحة مؤثرة، رفعت النساء أوشحتهن عاليًا كراياتٍ تحتفي بصمود الفلاحات ومعاناتهن، في مشهد استحضر تاريخًا طويلًا من التعب والعرق. امتزجت الموسيقى الحيّة بالكوريغرافيا في تجسيد حركيّ للذاكرة والحنين والتمرّد معًا.
مفاجأة الحصان… طقس شعبي على الركح
من أكثر اللحظات إدهاشًا لجمهور بنزرت دخول فارسٍ على صهوة جواده إلى الركح، في مشهد استعاد طقوس "الزردة" الشعبية.
وكشف عبد الحميد بوشناق أنّ إدخال الحصان كان قرارًا مدروسًا رغم صعوبته التقنية: "التحضير استغرق مراحل عديدة بالتنسيق مع أحمد المراكشي الذي أشرف على تدريب الحصان وتجهيزه للركح. أردنا أن يعيش جمهور بنزرت تجربة متكاملة، ولم يكن منطقيًا حرمانهم من هذه اللوحة البصرية الأساسية في العرض".
المشهد لم يكن استعراضًا فحسب، بل رمزًا للصراع بين الحرية والقيود، ما أضفى بعدًا فلسفيًا أعمق على العرض.
لمسات وفاء واعتراف بالجميل
في ختام العرض، عمّ المسرح صمتٌ مفعم بالشجن عندما انطلقت أغنية الفنان الراحل أحمد العبيدي "كافون"، لتظهر صورته على الشاشة عبر تقنية الذكاء الاصطناعي، في تحية وفاء لفنان ترك أثرًا خالدًا في وجدان التونسيين منذ سنوات الثورة.
كما لم يغفل عبد الحميد بوشناق عن تكريم زملاء العمل والفلاحات والممثلين الذين رحلوا، في لمسة إنسانية أكدت وفاء الفريق لكل من ساهم في المسيرة .
و في السياق ذاته، استحضر عبد الحميد بوشناق تأثير المخرج المسرحي والسينمائي المرحوم فاضل الجزيري، قائلًا: ”الجزيري كان مصدر إلهام لي منذ نوبة، ثم عشّاق الدنيا، وصولًا إلى رقوج. تعلّمت منه احترام الجمهور والبحث عن الأصالة، وأتمنى أن أكون ولو قليلًا على خطاه."
جمهور شريك.. لا متفرّج
أحد أسرار نجاح "رقوج" أنه حوّل الجمهور إلى بطلٍ موازٍ للعمل؛ فقد حفظ الحاضرون النصوص، رددوا الأغاني، ضحكوا، بكوا، وتأثروا حتى أنهم استبقوا بعض المشاهد وكأنهم جزء من شخصيات القصة نفسها.
من جهته، عبّر الممثل شوقي خوجة عن سعادته بتجسيد شخصية "مبروك": "النجاح كان مبروكًا فعلًا… تفاعل الجمهور جعل التجربة مختلفة عن أي عمل تلفزيوني، فالمسرح بطبيعته تفاعلي ويمنحك حياةً في كل عرض."
أمّا المُمثّل محمود السعيدي، فأكّد أنّ قوّة "رقوج" تكمن في جرعة الحب التي تتضاعف مع كلّ عرض: "العمل يناقش قضايا الأرض والعمل والحبّ، وهي مواضيع أساسية لابد من طرحها فنّيًا للتأثير في الوعي الجمعي."
نجاح "رقوج" لم يقتصر على بنزرت؛ فقد افتتح مهرجان الحمامات الدولي في دورته الـ59، واختتم مهرجان دقة الدولي في دورته الـ49، وكان حاضرًا في مهرجان صفاقس الدولي بدورته الـ45. ورغم هذا الانتشار، يصرّ عبد الحميد بوشناق على أنّ "كلّ عرض نعدّه وكأنّه الأول.. فالتحدي الحقيقي هو الحفاظ على شغف الجمهور وتفاعله أينما كنّا".
ليندا بالحاج